كيف يتحقق الإخلاص في حب الله؟
من السّهل جدّاً أن يُقدِّم الطّبيب المُختص الوصفة، ولكنّ الصعوبة تكمن في مدى التزام المريض باتِّباع توصيات الطبيب وإرشاداته، والأمر متعلِّق أوّلاً وأخيراً بالمريض نفسه: هل يريد فعلاً أن يتعافى ويتماثل للشِّفاء، أم أنّه يلقي بالوصفة على الرّفِّ.
ولذا فلابدّ من التّذكير هنا أنّ الحب الحقيقي يقتضي الجدِّية في التعبير عنه، وإلا كان (ادِّعاءً) للحبّ وليس حبّاً.
يقول المجرَّبون من أهل الإخلاص لله: إنّ الإخلاص في الحُبِّ يستلزم أن تكون النِّيّة صالحة!
والنِّية هي المُحرِّك الأوَّل للعمل، هي الدّافع والمُحرِّض، وعلى مدى صلاحها وسلامتها يكون العمل صالحاً وسليماً، ولذلك جاء في التوجيه النبوي: "إنما الأعمال بالنِّيات"، و"نيّةُ المَرْءِ خَيْرٌ من عملِه". فالإسلام يهتمّ بالدوافع والتي يمكن اختصارها بالجواب عن سؤال:
هل كان عملك لله أم لغيره؟
إنّ محاسبة النفس في كلِّ عمل، واستنطاقها عن الدافع في الأعمال الخيِّرة والأمور النبيلة، يُمكنك من الحصول على (ضمير نقي) و(قلب طاهر).. أخضِع أعمالك للمُراقبة والمُلاحظة.. كما يُدقِّق المُتعامل بالعُملة في صحتها أو أصالتها.
ومن خلال قراءة بعض تجارب الصالحين والمُحبِّين والمُخلصين، رأينا أنهم دائماً يطرحون السؤال المتقدِّم، فإذا حقّق عمل إنجازاً كبيراً أو شهرةً واسعةً، وقفوا ليسألوا أنفسهم: هل كنّا سنقدم عليه لو لم يحقِّق تلك السّمعة أو الشهرة أو الصدى الواسع؟!
إنّ الذي يتبرّع بمبلغ من المال ليُقال عنه أنّه (كريم) أو (مُحسِن)، ليس له عند الله شيء؛ لأنّه أراد أن يُقال له كريمٌ مُحسِنٌ وقد قيلَ له.
والذي يطلب العلم حتى يزداد أتباعه ومُريدوه وحاشيته والمُعجبون به، ليس قريباً من الله؛ لأنّه أراد شيئاً غير الله وقد حصل عليه.
والجدير بالإشارة هنا أنّ الرياء لا يقع في الفرائض والواجبات إلّا قليلاً، فهو أكثر ما يقع في المندوبات والمُستحبات والنوافل التي يُراد لها أن تستكمل نواقص (الواجب) وتزيد في رصيد الحبّ، فإذا بها تفسدهما. فما هو العلاج إذن؟
مرّة أخرى نستعين بالخُبراء الذين ذاقوا حلاوة حبّ الله، الذين يقولون: إذا رأيتَ أنّك لا تستطيع أداء الواجبات بإخلاص في العَلَن، فأدَّها في الخَفاء، ونضيف: وكذلك المُستحبّات.
يقول الإمام علي (ع)، أحد أبرز المُحبِّين المُخلصين لله:
"اللّهمّ إنِّي أعوذُ بك من أن تُحَسِّن في لامعةِ العُيون علانيتي، وتُقبِّح فيما أُبطِنُ لك سَريرتي، مُحافظاً على رياء الناس من نفسي بجميع ما أنتَ مُطّلعٌ عليه منِّي، فأبدي للنّاس حُسن ظاهري، وأُفضي إليكَ بسوءِ عملي، تقرّباً إلى عبادكَ وتباعداً من مرضاتك".. ونحنُ – يا ربّنا الكريم – نعوذُ بك من ذلك.
و(لامعة العيون) يرمز إلى إعجاب الناس وانبهارهم واندهاشهم بالعمل، وحتى نكون واقعيين في الطرح والمعالجة – ما أمكننا ذلك -، نقول: إنّ ثناء الناس على العمل – إذا لم يكن مطلوباً بذاته – أي ليس هدفاً للعمل، فلا بأس به، فالإنسان بطبعه يحبّ أن يُثنى على عمله، أمّا إذا حرص عليه (العامل) ومال ميلاً مفرطاً نحو استحسان الناس، فكان كلّ همّة وغاية مطلوبه، فهذا هو (الرِّياء) المُفسدة والمُبطل للعمل.
هذه لفتة، وثمّة لفتة أخرى، أثبتتها التجربة (تجربة حبّ الله) أيضاً، وهي أنّك إذا عملتَ لله مخلصاً ما استطعت، فسيأتي استحسان الناس لعملك حقّاً، حيث سيُعرِّف الله تعالى نفسه به مَن لم يعرفه، وينشره ويشهره، فلماذا الإستعجال المُبطِل لصالح الأعمال؟!
وطالما أنّ الحديث حديث الحبّ.. وحبّ الله تحديداً، فإنّ من شروط تحقّق هذا الحبّ هو معرفة المحبوب بأقصى ما يستطيع أحدنا من معرفة، فالله سبحانه يقول: "أنا خير شريك، فما كان لي ولغيري فهو لغيري"، أي لابدّ أن يكون العمل لله وحده حتّى يكون مخلصاً، يقول سبحانه وتعالى في الذين يُشركون غيره في ذبائحهم:
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الأنعام/ 136).
إنّ تنزيه العمل وتصفيته وتنقيته من شوائب الرِّياء، أصعب من العمل نفسه، ولذلك قيل: "الإخلاص في العمل أشدّ من العمل".. إنّ روح العمل هي المهمّة الأُولى.. نيّته الصالحة.. دافعه المُخلص.. العروج به إلى الله.. إسعاد المحبوب به.
قارن ما يفعله المُشركون في النموذج القرآني السابق، وبين هذا النموذج القرآني للعمل الخالص المُخلص. قال تبارك وتعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (الإنسان/ 8-12).
صبروا على (لمعان عيون الناس) إعجاباً وانبهاراً، فجزاهم الله ما هو أعلى وأغلى، لما يدعو فعلاً إلى الإعجاب والإستحسان والإندهاش والإنبهار والغبطة.
أيّها الأحبّة..
لمعان العيون كلمعان البرق، خاطف وسريع الإشتعال، سريع الإنطفاء، وقد يُرضي في النفس غرورها.. ثمّ ماذا؟ وماذا بعد ذلك؟ هل نبحث عن لمعان عيون أخرى.. ربّما.. لكنّها عمليّة بحث شاقّة.. لهاث وراء سراب.. السراب له لمعان، ولكنّ لمعانة ليس ضوءاً حقيقيّاً وليس ماءً حقيقياً.. هل ارتوى ظمآن من سراب؟!
هل رأيتم تسلّط الأضواء على الرؤساء في دول العالم.. وهل رأيتم كيف تخبو تلك الأضواء حين تنتهي مدة رئاستهم ليكونوا في (الظِّلِّ) أو ربّما في (الظّلام).. لا يذكرهم ذاكر. هل رأيتم الفناّنين الذين أغرتهم الشهرة وملأت أسماعهم حرارة التّصفيق، كيف أُركنوا في الزوايا المُهملة حين شاخوا وتركوا الفنّ.. فماذا سيصبحون في غدٍ حين يقفوا بين يدي الله؟ بل ماذا سيدخل في قبورهم من أنوار تلك الحفلات التي شعَت بها الأنوار ولمعت فيها العيون؟
ما أحوجنا أن تلمع العيون وهي ترانا نُساق إلى الجنّة وزُمَراً؟!
اللّهمّ ارزقنا حُبّاً تلمع له عيونُ المُحبِّين!!